عوامل حفظ الصحابة للحديث
قوانين الرواية في عهد الصحابة
بعد وفاة النبي عليه الصلاة و السلام، قام الصحابة من بعده بحمل لواء الإسلام و تبليغ ما علموه منه صلى الله عليه و سلم. و لقد تميَّز الصحابة بخصائص و مميزات أهَّلتهم لحفظ الحديث في الصدور، و فيما يلي نورد أهم العوامل التي ساعدتهم لحفظ الحديث الشريف:
عوامل حفظ الصحابة للحديث :
-1 صفاء أذهانهم و قوة قرائحهم و ذلك أنَّ العرب أمة أمِّية لا تقرأ و لا تكتب، و الأمّي يعتمد على ذاكرته فتنمو و تقوى لتسعفه حين الحاجة ، كما أنَّ بساطة عيشهم بعيداً عن تعقيد الحضارة جعلتهم ذوي أذهان نقية، لذلك عُرِفوا بالحفظ النادر و الذكاء العجيب حيث اشتهروا بحفظ القصائد من المرة الأولى و حفظ الأنساب ...
-2 قوة الدافع الديني لأنهم أيقنوا أن لا سعادة لهم في الدنيا و لا فوز في الآخرة إلا بهذا الإسلام، فتلقَّفوا الحديث النبوي بغاية الاهتمام و نهاية الحرص.
-3 تحريض النبي صلى الله عليه و سلم على حفظ حديثه، قال زيد بن ثابت: " سمعتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فبلَّغها، فرُبَّ حامل فقه غير فقيه و ربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه " أخرجه أبو داود و الترمذي و ابن ماجه، و في رواية: نضَّر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلَّغه كما سمعه، فربَّ مبَلِّغ أوعى من سامع "، قال الترمذي حديث حسن صحيح. قال العلاَّمة القسطلاني: " المعنى أنَّ الله تعالى خصَّه ( أي ناقل حديث النبي صلى الله تعالى عليه و سلم ) بالبهجة والسرور لأنه سعى في نضارة العلم و تجديد السنّة، فجازاه النبي صلى الله عليه و سلم في دعائه له بما يناسب حاله من المعاملة ". وبالفعل هذا ما نجده في وجوه المحدثين من نضارة ونور يعلو محياهم و حسن سمت يضفي عليهم هيبة و وقاراً.
-4 اتباع النبي صلى الله عليه و سلم الوسائل التربوية في إلقاء الحديث على الصحابة و سلوكه سبيل الحكمة كي يجعلهم أهلاً لحمل الأمانة و تبليغ الرسالة من بعده، فكان من شمائله في توجيه الكلام:
أ- أنه لم يكن يسرد الحديث سرداً متتابعاً بل يتأنّى في إلقاء الكلام ليتمكَّن من الذهن، قالت عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه الترمذي: " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا ولكنه كان يتكلم بكلام بيِّن فصل يحفظه من جلس إليه ".
ب- لم يكن يطيل الحديث بل كان كلامه قصداً، قالت عائشة فيما هو متفق عليه: " كان يحدِّث حديثاً لو عدَّه العادُّ لأحصاه ".
جـ- أنه كثيراً ما يعيد الحديث لتعيه الصدور، روى البخاري و غيره عن أنس فقال: " كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعيد الكلمة ثلاثاً لِتُعقَل عنه ".
-5 مواظبة الصحابة على حضور مجالس رسول الله صلى الله عليه و سلم التي كان يخصصها للتعليم و اجتهادهم في التوفيق بين مطالب حياتهم اليومية و بين التفرغ للعلم، فها هو عمر بن الخطاب يتناوب الحضور مع جار له من الأنصار على تلك المجالس، فقال عمر: " كان ينزل صاحبي يوماً و أنزل يوماً فإذا نزلتُ جئتُه بخبر ذلك اليوم من الوحي و غيره و إذا نزل فعل مثل ذلك "، رواه البخاري.
-6 مذاكرة الصحابة فيما بينهم، قال أنس: " كنا نكون عند النبي صلى الله عليه و سلم فنسمع منه الحديث فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه ".
-7 أسلوب الحديث النبوي، فقد أوتي النبي صلى الله عليه و سلم بلاغة نادرة شغفت بها قلوب العرب وقوة بيان يندر مثلها في البَشَر ومن هنا سمى القرآن الكريم الحديث " حكمة ".
-8 كتابة الحديث و هي من أهم وسائل حفظ المعلومات ونقلها للأجيال . ورد في سنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو أنه قال: " كنتُ أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه ... ". وقد تناولت الكتابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قسماً كبيراً من أهم الأحاديث وأدقها لاشتمالها على أمهات الأمور وعلى أحكام دقيقة.
قوانين الرواية في عهد الصحابة :
اعتمد أئمة المفتين في هذا الدور و جلّ الصحابة قوانين محددة فيما يتعلق برواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، و أهم هذه القوانين هي التالية:
-1 التقليل من الرواية: خشية أن ينتشر الكذب و الخطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ عن سيدنا أبي بكر أنه جمع الناس بعد وفاة نبيهم عليه الصلاة و السلام فقال: " إنكم تحدِّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها و الناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدِّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا بيننا و بينكم كتاب الله فاستحِلّوا حلاله وحَرِّموا حرامه ".
-2 التَّثبت في الرواية: كان الصحابة يتثبَّتون فيما يُروى لهم ، فلم يكن أبو بكر و لا عمر يقبلان من الأحاديث إلا ما شهد اثنان أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه و سلم و ذلك للأسباب التالية:
أ- قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105].
ب- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا...} [الحجرات: 6].
ج- لما سُئِلَ الزبير بن العوّام لماذا لا تُحَدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدِّث فلان و فلان؟ قال: " أما إني لم أفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم و لكني سمعته يقول: " من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ".
د- ورد في الحديث الصحيح أنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: " من حدَّث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذِبَين ".
إذاً فقد كان من طبع الصحابة الحرص الشديد و الخوف من الكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف لا وقد مدحهم النبي صلى الله عليه و سلم فيما يرويه البخاري: " الله الله في أصحابي لا تسبوهم ولا تؤذوهم فمن آذاهم فقد آذاني و من آذاني فقد آذى الله، والذي نفسي بيده لو أنَّ أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مدَّ أحدهم و لا نصيفه ".
روى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أنَّ جدةً جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تُوَرَّث فقال: " ما أجد لكِ في كتاب الله شيئاً وما علِمتُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر لكِ شيئاً "، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: " سمعتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم يعطيها السدس" فقال: "هل معك أحد "؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه ( أي أعطاها السدس ).
و عن سعيد أنَّ أبا موسى رضي الله عنه سلَّم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من وراء الباب ثلاث مرات فلم يُؤذن له فرجع فأرسل عمر في أثره فقال: لم رجعت؟ قال:" سمعتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا سلَّم أحدكم ثلاثاً فلم يجب فليرجع "، قال: "لتأتيني على ذلك ببيِّنة أو لأفعلنَّ بك "، فجاءنا أبو موسى منتقعاً لونه و نحن جلوس فقلنا:" ما شأنك "؟ فأخبرنا و قال: " فهل سمع أحد منكم "؟ فقلنا: " نعم كلنا سمعه "، فأرسلوا معه رجلاً منهم حتى أتى عمر فأخبره. و قد قال عمر لغير واحد من الصحابة: " أما إني لم أتهمك و لكنني أحببتُ أن أتثبَّت ".
-3 نقد الروايات: و ذلك بعرضها على نصوص و قواعد الدين، فإن وجد مخالفاً لشي منها ردوه و تركوا العمل به. هذا هو الخليفة عمر فيما أخرج مسلم عنه: أفتى عمر بن الخطاب بأنَّ المبتوتة ( التي طلقها زوجها ثلاثاً ) لها النفقة و لها السكنى و لمَّا بلغه حديث فاطمة بنت قيس أنَّ زوجها طلقها ثلاثاً فلم يجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم لها سكنى و لا نفقة، قال: "لا نترك كتاب الله و سنّة نبينا لقول امرأة لعلها حفظت أو نسيَت، قال الله عز و جل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1].
و لا بد من الإشارة إلى أنه لم يكن هناك حاجة إلى جرح و تعديل أي البحث و التدقيق عن عدالة و صدق الراوي لأنَّ الصحابة كلهم عدول و ذلك بنص القرآن، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]. أما المنافقون فكانوا كما قال عنهم العلماء أحقر من أن يحملوا عِلماً أو يؤخذ عنهم العلم !!!.