ينقسم تاريخ التشريع إلى ستة أدوار:
-1 الدور الأول: التشريع في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم
-2 الدور الثاني: التشريع في عصر كبار الصحابة (من سنة 11 إلى سنة أربعين هجرية)
-3 الدور الثالث: التشريع في عهد صغار الصحابة ومن تلقى عنهم من التابعين
-4 الدور الرابع: تدوين السنة وأصول الفقه وظهور الفقهاء الأربعة الذين اعترف الجمهور لهم بالإمامة والاجتهاد المطلق، وأنه من اتبع واحداً منهم كان ناجياً عند الله تعالى إن شاء الله عز وجل.
-5 الدور الخامس: القيام على المذاهب وتأييدها و شيوع المناظرة والجدل من أوائل القرن الرابع إلى سقوط الدولة العباسية.
-6 الدور السادس: من سقوط بغداد على يد هولاكو إلى الآن وهو دور التقليد المحض.
وسنتناول في هذا البحث إن شاء الله تعالى معالجة أهم النقاط المتعلقة بالأدوار الأربعة الأولى فقط والتي تهمنا.
مصادر التشريع الإسلامي
التشريع أو الفقه الإسلامي هو مجموعة الأحكام الشرعية التي أمر الله عباده بها، ومصادره أربعة وهي التالية:
-1القرآن:
وهو كلام الله تعالى وهو المصدر و المرجع لأحكام الفقه الإسلامي، فإذا عرضت لنا مسألة رجعنا قبل كل شيء إلى كتاب الله عز وجل لنبحث عن حكمها فيه، فإن وجدنا فيه الحكم أخذنا به، ولم نرجع إلى غيره. ولكن القرآن لم يقصد بآياته كل جزئيات المسائل وتبيين أحكامها والنص عليها، وإنما نص القرآن الكريم على العقائد تفصيلاً، والعبادات والمعاملات إجمالاً ورسم الخطوط العامة لحياة المسلمين، وجعل تفصيل ذلك للسنة النبوية. فمثلاً: أمَرَ القرآن بالصلاة، ولم يبين كيفياتها، ولا عدد ركعاتها. لذلك كان القرآن مرتبطاً بالسنة النبوية لتبيين تلك الخطوط العامة وتفصيل ما فيه من المسائل المجملة.
-2السُنَّة النبوية:
وهي كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه و سلم من قول أو فعل أو تقرير. وتُعَدُّ في المنزلة الثانية بعد القرآن الكريم، شريطة أن تكون ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بسند صحيح، والعمل بها واجب، وهي ضرورية لفهم القرآن و العمل به.
-3الإجماع:
هو اتفاق جميع العلماء المجتهدين من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور على حكم شرعي، فإذا اتفق هؤلاء العلماء - سواء كانوا في عصر الصحابة أو بعدهم - على حكم من الأحكام الشرعية كان اتفاقهم هذا إجماعاً وكان العمل بما أجمعوا عليه واجباً. ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن علماء المسلمين لا يجتمعون على ضلالة، فما اتفقوا عليه كان حقاً.
روى أحمد في مسنده عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سألتُ الله عز وجل أن لا يَجمَعَ أمَّتي على ضلالةٍ فأعطانيها ".
والإجماع يأتي في المرتبة الثالثة من حيث الرجوع إليه، فإذا لم نجد الحكم في القرآن، ولا في السنة، نظرنا هل أجمع علماء المسلمين عليه، فإن وجدنا ذلك أخذنا وعملنا به.
مثاله، إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أن الجد يأخذ سدس التركة مع الولد الذكر، عند عدم وجود الأب.
-4 القياس:
وهو إلحاق أمر ليس فيه حكم شرعي بآخر منصوص على حكمه لاتحاد العلة بينهما. وهذا القياس نرجع إليه إذا لم نجد نصاً على حكم مسألة من المسائل في القرآن ولا في السنة ولا في الإجماع. فالقياس إذاً في المرتبة الرابعة من حيث الرجوع إليه.
أركان القياس أربعة: أصل مقيس عليه، وفرع مقيس، وحكم الأصل المنصوص عليه، وعلة تجمع بين الأصل والفرع.
ودليله قوله عز وجل: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، أي لا تجمدوا أمام مسألة ما، بل قيسوا وقائعكم الآتية على سنَّة الله الماضية. وروى مسلم وغيره عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ". وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أرسله رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم إلى اليمن ليُعَلِّمَ الناس دينهم، فقال: يا معاذ بما تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال: فبسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أقيس الأمور بمشبهاتها ( وهذا هو الاجتهاد )، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تهلل وجهه سروراً: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله، وفي رواية أخرى قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو (أي أجتهد و لا أترك).
مثاله: إن الله تعالى حرَّم الخمر بنص القرآن الكريم، و العلة في تحريمه: هي أنه مسكر يُذهِب العقل، فإذا وجدنا شراباً آخر له اسم غير الخمر، ووجدنا هذا الشراب مسكراً حَكَمنا بتحريمه قياساً على الخمر، لأن علة التحريم - وهي الإسكار - موجودة في هذا الشراب؛ فيكون حراماً قياساً على الخمر.
وسيأتي فيما يلي معالجة وتعريف وتبيان كل مصدر من هذه المصادر من خلال الحديث عن الأدوار التي مر بها تاريخ التشريع الإسلامي.
* ضرورة التزام الفقه الإسلامي، والتمسك بأحكامه:
لقد أوجب الله تعالى على المسلمين التمسك بأحكام الفقه الإسلامي، وفرض عليهم التزامه في كل أوجه نشاط حياتهم وعلاقاتهم. وأحكام الفقه الإسلامي كلها تستند إلى نصوص القرآن الكريم والسُنَّة الشريفة. فإذا استباح المسلمون ترك أحكام الفقه الإسلامي، فقد استباحوا ترك القرآن والسُنَّة، وعطَّلوا بذلك مجموع الدين الإسلامي، ولم يعد ينفعهم أن يتسمَّوا بالمسلمين أو يدَّعوا الإيمان، لأن الإيمان في حقيقته هو التصديق بالله تعالى، و بما أنزل في كتابه، وفي سنَّة نبيِّهِ صلى الله عليه و سلم.
والإسلام الحقيقي يعني الطاعة و الامتثال لكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل مع الإذعان والخضوع والرضا.
وأحكام الفقه الإسلامي ثابتة لا تتغير ولا تتبدل مهما تبدَّل الزمن وتغيَّر، ولا يباح تركها بحال من الأحوال. فشرع الله صالح لكل زمان ومكان، والأدلة من القرآن والسنَّة كثيرة وعديدة. أما في الكتاب، فقد قال الله تعالى:
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3].
{فَلَا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
{وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، [الحشر: 7].
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
و أما في السنة فالأحاديث كثيرة أيضاً منها:
- ما رواه البخاري و مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " من أطاعني فقد أطاع الله، و من عصاني فقد عصى الله ".
- ما رواه أبو داود و الترمذي قوله صلى الله عليه و سلم: " عليكم بسُنَّتي ".
وبناءً على هذه النصوص يُعَدُّ من يختار من الأحكام غير ما اختاره الله ورسوله، قد ضلَّ ضلالاً بعيداً، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: