تساؤلات حول البسملة
لقد كشف علماؤنا عن العديد من أسرار البسملة وفاتحة الكتاب، وأفاضوا في دلالاتهما وفضلهما، وبيّنوا عظمتهما التي هي أكثر من أن يستوعبها هذا المكان. فمقصدنا من هذا الباب هو أن نبيّن نوعًا من النظم العجيب والتأليف البديع والمناسبات العددية المحكمة بين مواقع كل كلمة وردت في آيات هذه السورة الكريمة، مع ما يرادفها من الكلمات في جميع المواقع القرآنية. ولكي لا نطيل عليك في هذا السرد، سنقتصر بحثنا على الآيات الثلاث الأولى من الفاتحة، والعبرة منها في باقي المواضع.
فالآية الأولى من فاتحة الكتاب ابتدئت باسمه تعالى متبعة بلفظي الجلالة ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ﴾، في قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ﴾. وفي الآية الثانية أثنى الله عزّ وجلّ على نفسه وذاته الكريمة، بقوله سبحانه: ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. ثم تكرّر في الآية الثالثة ذكر لفظي الجلالة، في قوله تبارك وتعالى: ﴿الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ﴾.
وأنت إذا تأملت ترتيب الكلمات في هذه الآيات، وتذوّقت مجرى الألفاظ ومواقعها في العبارات، ثم رددت نظرك وانتقلت إلى البحث عن مواضع هذه الكلمات في سائر القرآن، فتستدعيك أمور عديدة إلى التساؤل والإستفهام. أولها: إننا نجد من بين كل سور القرآن الكريم (3) سور جاءت بشيء يلفت الإنتباه. إذ نلاحظ أولاً أن سورة الفاتحة كانت الوحيدة التي حوت البسملة كآية من آياتها. ونجد ثانيًا أن سورة التوبة كانت الوحيدة التي لم تبدأ بالبسملة في أولها(1). ثم نلاحظ ثالثًا أن سورة النمل كانت الوحيدة التي جاءت فيها البسملة كجزء من آية، في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾(2). فللسائل أن يسأل عن وجه العلاقة بين بسملة الفاتحة وبين البسملة "المفقودة" في سورة التوبة والبسملة "الداخلية" في سورة النمل؟ علمًا بأن كل واحدة من هذه السور امتازت عن الأخرى من حيث استقلاليتها الموضوعية.
المسألة الثانية: لقد تفرّدت (6) سور من سور القرآن الكريم باحتواء لفظي الجلالة ((الرحمن الرحيم)) في آياتها، وذلك في المواضع التالية: في الآية (1) من سورة الفاتحة: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ﴾، والآية (3) من سورة الفاتحة أيضاً: ﴿الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ﴾، والآية (163) من سورة البقرة: ﴿وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾، والآية (30) من سورة النمل: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، والآية (2) من سورة فُصّلت: ﴿تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، والآية (22) من سورة الحشر: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾. فللسائل أن يسأل هنا أيضًا عن سبب اختصاص هذه السور بذلك؟ وهل هذا التخصيص لمناسبة تقتضيه هذه السور، حتى لا يلائم سورة منها ما ورد من ذلك في غيرها؟
المسألة الثالثة: وردت كلمة ((الحمد)) (38) مرة في القرآن، منها (24) مرة جاءت مقترنة باسمه تبارك وتعالى: ((الحمد لله))، و(14) مرة جاءت مقترنة بلفظ ((رب))(3) أو ((له))(4). فيلفت انتباهنا هنا أمران اثنان: الأول، أنه من مجموع التكرارات الـ(24) التي جاءت فيها كلمة ((الحمد)) مقترنة باسمه تبارك وتعالى: ((الحمد لله))، نجد أن عبارة ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قد تكرّرت في (6) مواضع من القرآن الكريم، وذلك في المواضع التالية: الآية (2) من سورة الفاتحة (1)، الآية (45) من سورة الأنعام (6)، الآية (10) من سورة يونس (10)، الآية (182) من سورة الصافات (37)، الآية (75) من سورة الزُّمَر (39)، وفي الآية (65) من سورة غافر (40). ولقد علمنا من قبل أن عبارة ((الرحمن الرحيم)) قد تكرّرت هي الأخرى بنسبة (6) مرات في القرآن. فما هو وجه الدلالة في هذا التناسب؟
وأما الأمر الثاني، فيكمن في عبارات ((الحمد لله)) الـ(24 – 6 = 18) المتبقّية. حيث نجد أن (5) عبارات منها جاءت في أوائل (5) سور قرآنية، هي سورة الفاتحة: ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(5)، وسورة الأنعام: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ﴾(6)، وسورة الكهف: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾(7)، وسورة سبأ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾(
، وسورة فاطر: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(9). ثم نجد من العجب أيضًا أن (5) عبارات منها قد جاءت لتختم (5) سور أخرى، هي: سورة الإسراء: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً﴾(10)، وسورة النمل: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾(11)، وسورة الصافات: ﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(12)، وسورة الزُّمَر: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(13)، وسورة الجاثية: ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(14). فهل يمكن لهذا الإحكام العجيب أن يكون عبثًا؟ أم أنه يشير إلى تناسب متعمّد ومقصود؟