[color:dc22=blue:dc22]أصبح من الواضح أن الأمازيغية لم تعد قضية لغة وثقافة تبحث عن نفسها فقط، أو مجرد مسألة تتعلق بطرح يقتصر على جوانب ثانوية ضمن مشروع عام ينبني على أولويات سياسية واقتصادية أخرى كما ظل الأمر عليه في السابق، بقدر ما أصبحت قضية ذات حضور وازن وذات أبعاد متعددة تمس القضايا الشائكة والعالقة في الساحة السياسية والحقوقية والاجتماعية بالمغرب. كما أن القضية الأمازيغية أضحت تشكل في عمقها أساس مختلف عناصر الإجابات المجتمعية على مجموع معضلات الشعب المغربي، إضافة إلى أنها تعد إحدى أهم شروط كسب التحديات المطروحة أمام المجتمع والدولة، لاسيما أمام طبيعة التحولات القائمة، في مقابل فشل المشاريع السابقة التي كانت تقوم على الأحادية الشاملة.
ومن المجالات الأساسية التي تعكس الاختلالات الكبرى التي تعيق سير المغرب، والناجمة عن تسييد هذه الأحادية، حالة النظم الاجتماعية السائدة منذ سنة 1956 إلى يومنا هذا، الأمر الذي أصبح يفرض على الدولة أن تتجاوز واقع هذه الاختلالات وانعكاساتها السلبية على المجتمع وشخصيته الحضارية والثقافية عن طريق الأخذ بوسائل فرض نظم تقوم على اعتبار أهمية الأمازيغية كمنظومة عامة يمكن أن تشكل قاعدة وأرضية لبلورة إستراتيجيات اجتماعية تنسجم مع الواقع القائم وتنشد الواقع المأمول، كما أنها تعكس منظورا صحيحا وسليما تجاه مختلف القضايا المرتبطة بهذا المجال، خاصة أمام حدة المشاكل والوضعية الاجتماعية وتداعياتها على المجالات الأخرى.
ومن المستويات البارزة التي تعكس حالة الاختلالات الكبرى على مستوى النظم الاجتماعية بالمغرب، مجالات التعليم والمعرفة والمرأة والتنمية... ومجالات أخرى تبقى في حاجة ماسة إلى إعادة النظر على مستوى الثوابت المؤسسة لها، لاسيما والحاجة قائمة فيما يتعلق بضرورة بلورة رؤية شاملة لدى الحركة الأمازيغية بحكم كونها حركة مجتمعية مفروض عليها أن تتسلح بتصور ومشروع مجتمعي حقيقي.
1. على مستوى التعليم والتربية
إن السياسة التعليمية والتربوية التي اتبعتها الدولة المغربية منذ سنة 1956، والقائمة على المبادئ الأربعة وخاصة منها مبدأ التعريب، كانت نتيجتها الحتمية الفشل الذريع. لذلك فالحركة الأمازيغية جعلت من مبدأ سياسة تعليمية وطنية بمدرسة مغربية أهم مطالبها، خصوصا وأن هذه القناة كمؤسسة من مؤسسات التنشئة الاجتماعية ظلت واجهة لخدمة رهانات التعريب الشامل والأعمى. علاوة على مطلب تدريس الأمازيغية والتدريس بها في كافة مستويات وأسلاك التعليم ولكل المغاربة وإدماج المنظومة التعليمية والتربوية في المنظومة الأمازيغية باعتبارها هي الأصل.
وقد كشفت العديد من الأبحاث والدراسات التي تناولت موضوع "هوية المدرسة المغربية" عن الاختلالات الكبرى التي نجمت عن طبيعة هذه السياسة الغوغائية التي اتبعت في مجال التربية والتعليم وانعكاساتها النفسية والرمزية على المحيط السوسيو-ثقافي بالمغرب.
ومن هنا يتبين دور وأهمية الأمازيغية على مستوى بلورة سياسة محكمة على صعيد الخطط والنظم الاجتماعية مثل مجالات التعليم والتربية والمعرفة والتنمية والتطور وتسعى إلى القطيعة مع كل الخيارات التي تحكمت في وجود هذه العوائق والاختلالات.
وعودة إلى خطط التعليم بالمغرب التي لم يقتصر فيها مبدأ التعريب على مستوى لغة التلقي فقط، بل تعداه ليمس جانب البرامج التعليمية والمقررات الدراسية والمناهج المعتمدة داخل فضاء المدرسة التي أفرغت من أي محتوى ومضمون حضاري وثقافي وعلمي وإنساني، بعد أن تحولت إلى جهاز للقمع الرمزي وخدمة قضايا الاستلاب والأحادية اللغوية والثقافية والميز.
وفي آخر دراسة لمنظمة "حقوق الإنسان لروابط التربية"، وهي منظمة غير حكومية أمريكية، أكدت أن الكتب المدرسية والبرامج التربوية ونظم التعليم في المغرب تكرس هذا المضمون الذي يقوم على الميز اللغوي والثقافي والديني، ومن أهم العناصر التي يمسها هذا التمييز ـ حسب هذه الدراسة ـ المرأة و"الأقليات"، وهو ما اعتبرته من بين الاختلالات الموجودة في مجال التعليم التي تنعكس سلبا على مستوى الاستقرار والتنمية ويكشف في نفس الوقت حقيقة خطط وبرامج التعليم في المغرب.
كما أكدت هذه الدراسة أن هذه البرامج تعكس التمييز وقلة الانفتاح الثقافي والديني وإقصاء المكونات اللغوية و"العرقية" والدينية التي لا تنتمي إلى حقل "العروبة والإسلام"، في إشارة إلى غياب أية مكانة للعناصر الأخرى خارج هذه المنظومة، خاصة الأمازيغية (لغة وثقافة) والأديان الأخرى (اليهودية مثلا)... وهو ما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار السياسي ويستوجب ضرورة اعتبار قيم التسامح واحترام حقوق المكونات الأخرى ومختلف التنوعات الدينية والثقافية والحضارية واللغوية من داخل خطط وبرامج التعليم وضرورة انسجامها مع واقع سوق الممتلكات الرمزية لهذا المجتمع كإجابة موضوعية على الاختلالات الاجتماعية القائمة.
وإذا كانت رهانات التعريب على مر العقود الماضية واضحة وترتبت عنها انعكاسات قاسية وسلبية للغاية على الإنسان المغربي، فإن رهانات التمزيغ تتجسد أساسا في تجاوز مخلفات الاختيار الأول وحالات الاختلالات السابقة التي مست أهم مجالات النظم الاجتماعية بالمغرب. إضافة إلى ذلك يمكن أن تشكل هذه الرهانات المرجعية التاريخية لأي مشروع مجتمعي يشكل فيه التعليم الجوهر والمدخل للقضاء على واقع التخلف والاستلاب الثقافي والتفكك الاجتماعي والصراع السياسي والإيديولوجي والتأخر الاقتصادي عن طريق اعتماد الأمازيغية ضمن المقاربات والإستراتيجيات التي ترسم السياسة الاجتماعية لما لهذه المسألة من أهمية داخل المجتمع.
2. على مستوى التنمية البشرية
تحتل التنمية البشرية أحد أبرز رهانات مغرب القرن 21 على اعتبار ما تفرضه من تحديات، لاسيما أمام الوضعية التي يوجد عليها المغرب في سلم التصنيف الدولي واحتلاله للمراتب الأخيرة (125) على مستوى مؤشرات التنمية البشرية. ورغم بعض الإجراءات والتدابير في هذا الميدان فإن ذلك ما يزال يواجه عوائق بنيوية ويصطدم بصعوبات عديدة تحول دون تحقيق الأهداف المرجوة من وراء هذه الخطط والنظم الاجتماعية على مستوى التنمية وكذا على مستوى ميدان الطفولة والمرأة والمعرفة والشباب ومحاربة الأمية ومختلف ميادين السياسة الاجتماعية.
وعودة إلى تقرير "50 سنة من التنمية البشرية بالمغرب وآفاق سنة 2025" الذي يرسم الخطوط العريضة للتنمية البشرية طيلة السنوات الماضية ويحدد معالم خطة المستقبل، فنجده قد تغافل الأمازيغية كمعطى بنيوي داخل المجتمع بمختلف مؤسساته وهياكله وبنياته الثقافية والاقتصادية، ولذلك فالأمازيغية بمضمونها الذي تشكل عبر سيرورة الإنسان الأمازيغي وتفاعلاته المختلفة، تعد من بين عناصر تجاوز العوائق والإكراهات التي تواجه رهانات التنمية الاجتماعية بالمغرب خاصة أمام الاختلالات الناجمة عن طبيعة السياسات المتبعة في هذا المجال. وباستثناء بعض الإشارات الطفيفة مثل القول بالاعتزاز بالتنوع الثقافي وامتزاج المكونات الحضارية داخل الفضاء الجغرافي شمال إفريقيا، فإن التقرير المذكور لم يعتبر الدور الوظيفي لمنظومة الأمازيغية على صعيد التحولات الاجتماعية والدينامية الثقافية للمجتمع المغربي، وبالتالي أهميتها على مستوى وضع برامج ونظم اجتماعية متوازنة تأخذ بالمعطيات السوسيو ثقافية للواقع وعناصره المادية والرمزية التي تساهم في تجاوز حالات الاختلالات السابقة وتساهم في الحركية الاجتماعية والاقتصادية باعتبارها من عوامل الإنتاج والإبداع، خصوصا وأن كل "تنمية مستدامة لا تحيل على السياق الإنساني أو الثقافي ليست سوى تكاثر بدون روح، في حين أن تنمية اقتصادية متوازنة هي من جنس ثقافة الشعب" كما يقول بيريز ديكويلار.
من هنا تتبين لنا أهمية الأمازيغية من خلال عاملي الثقافة والهوية، في مجال بلورة سياسات اجتماعية تتجاوز حالات الفشل والاختلالات واللاتوازن الذي يحكم النظم الاجتماعية بالمغرب، خاصة إذا اعتبرنا ما جاء في العقد العالمي للتنمية الثقافية (1988 - 1997) الذي أعلنته منظمة اليونسكو. إضافة إلى مضمون المادتين 10 و16 من إعلان مكسيكو الذي يحث على ضرورة ربط هذه النظم والاستراتيجيات بالسياق التاريخي والاجتماعي والثقافي لكل مجتمع.
علاوة على ذلك، فإن أهم شيء يمكن أن تمنحه المنظومة الأمازيغية - تيموزغا - على صعيد عناصر وشروط بلورة نظم اجتماعية محكمة تغطي مختلف الميادين والمجالات الحيوية، ما تختزله الحضارة الأمازيغية من تجارب مفيدة وتراكمات غنية وأنماط اجتماعية وأنظمة قانونية وسياسية وهياكل اقتصادية، والأكثر من ذلك فهذه المنظومة تمنحنا القيم كمرتكز بنيوي لكل الخطط والنظم الناجحة، هذه القيم التي تعتبر الحلقة المفقودة داخل السياسات الاجتماعية المتبعة بالمغرب.
3. على مستوى بؤر المستقبل
أمام طبيعة التحولات المتسارعة والعميقة التي يشهدها العالم والمغرب على حد سواء، فقد أصبح من المفروض وضع خطط والتأسيس لنظم اجتماعية تمس المجالات الحيوية والسابقة الذكر، تنسجم وعناصر مواجهة خطر هذه التحولات التي يمكن أن تشكل "بؤر المستقبل". ومن أبرز هذه العناصر الموضوعية منظومة الأمازيغية بما تحمله من معطيات وآليات قادرة على جعل المغرب ينخرط في مسارات تجاوز الاختلالات الاجتماعية وتطوير إمكانياته، وكذا المجالات التي تعكس حالة هذه الأزمات عن طريق تجديد الإرث الثقافي والحضاري لإيمازيغن عبر سيرورتهم التاريخية.
إن فشل العديد من المخططات والمشاريع عبر السنوات الماضية، كان بفعل تهميش وإقصاء مثل هذه العناصر والمكونات التي تعتبر في واقع الأمر أساس كل الرهانات الناجحة، ما دامت أنها ترتبط بوجود الإنسان ونظرته لما حوله وللعالم ككل، لذلك لا مناص من إغفال إحدى أهم المجالات الحاسمة في تطور المجتمع على مستوى طرح الخطط والنظم التي يراهن عليها للسير نحو مستقبل أفضل وواضح.
إن التركيز هنا يجب أن يصب حول اعتبار أهمية ووظيفة الأمازيغية على صعيد جميع الميادين المجتمعية بحكم كونها منظومة شاملة بمقدورها أن توفر لنا ما توفره المنظومات والإيديولوجيات المستوردة من الخارج مع ما تحمله هذه الأخيرة من عناصر الاستلاب. ومن بين هذه المجالات التي يمكن أن تساهم الأمازيغية في بلورة سياسات ناجحة بخصوصها: ميدان النظم الاجتماعية ورهانات المستقبل في أفق السنوات المقبلة وكذا تجاوز حالات ما يمكن أن يشكل "بؤر المستقبل" على مستوى ميادين حيوية تهم المجتمع في أساسه مثل المعرفة، التربية، المرأة، الديمقراطية...
إن الأساس في كل ما سبق ذكره، هو ضرورة الإدماج الفعلي لهذه المجالات في المنظومة الاجتماعية والوطنية التي تتأسس على الأمازيغية كثابت وتعزيز دورها على مستوى النسيج المجتمعي بدون تردد، بدل الارتكان إلى الدوران في حلقة مفرغة وهضم إمكانيات خارج نطاق ما يشكل أداة فعلية لإعطاء الأمازيغية موقعا معتبرا داخل دائرة القرار.
[/size]