هذا السؤال كثيراً مايطرح على الأطباء النفسيين وحتى الأطباء غير النفسيين عندما يقومون بشرح تفسيرات لبعض المشاكل العضوية للمريض أو أهله بأن ما يعاني منه عضوي، هو في حقيقة الأمر اضطراب نفسي، أدى إلى ظهور هذه الأعراض العضوية.
فالشخص الذي قد يعاني من ضيق في التنفس، وزيادة في ضربات القلب، وإفراط في إفراز العرق، والشعور بأنه سوف يموت، حينما يقول له طبيب القلب بأن ليس لديه أي مشكلة في القلب، وإن ما يعاني منه هو مجرد اضطراب نفسي يسمي اضطراب الهلع او الذعار (Panic Disorder)، وإن هذه الاعراض هي أعراض عضوية لأمراض نفسية، فكثير منهم لايصدق، بل يذهب إلى طبيب آخر وربما إلى عدة اطباء آخرين متخصصين في أمراض القلب، وبالتالي يقتنع بأن مايعاني منه هو حقيقةً اضطراب نفسي وليس مرضاً عضوياً في القلب..!!
علاقة المرض العضوي بالحالة النفسية، امر معروف منذ قديم الزمن، وربما يكون العالم والطبيب والفقيه والفيلسوف المسلم ابن سينا هو أول من لفت العلماء إلى هذه الحقيقة، عندما جاء أهل شابٍ بابنهم المريض، وقد ساءت حالته، ولم يجد الاطباء له علة يداوونه منها، فتنبه ابن سينا إلى الحالة النفسية إلى المريض والتي كانت قريبة من الاكتئاب أو من حالةٍ نفسيةٍ سيئة فأخذ ابن سينا يستفسر عن حال الشاب ويسأل الأهل عن الحالة النفسية والامور الاجتماعية للمريض (وهو مايعرف حالياً بأخذ التاريخ المرضي للمريض، وهو امر مهم جداً في حالة المريض النفسي..!!) ويروي لي الدكتور جمال القرشي، وهو طبيب سوداني استشاري من خيرة الاطباء الذين تعرفت بهم وتشرفت بأن عملنا معاً في قسمٍ واحد، وعاد قبل فترةٍ قصيرة إلى بريطانيا ليعمل استشارياً في الطب النفسي، بأنه عند بداية تدريبه في مستشفى الموزلي في لندن، طلب منه الاستشاري التحضير لحالة مريضة. قام الدكتور القرشي بسؤال كل من لهم علاقة بالمرأة من قريبٍ أو بعيد، وجمع معلومات، اعتبرها فائضة، فلما جاء موعد تقديم الحالة، سأله الاستشاري بأن يبدأ وقدم الحالة وانتهى من تقديم الحالة. سأله الاستشاري: هل سألت بائع الحليب الذي يجلب الحليب كل صباح إلى منزل المرأة، فدهش الدكتور القرشي..! وأجاب بالنفي. فطلب منه الاستشاري سؤال بائع الحليب الذي يحضر الحليب للمرأة كل صباح.
شعر الدكتور القرشي بالاحباط وواصل جمع المعلومات مرةٍ آخرى لكي يعرف ماهي الفائدة من مقابلة بائع الحليب..!). المهم أن ابن سينا سأل عن كل صغيرة وكبيرة في حياة المريض، حتى خمن بأن الشاب عاشق لم يستطع الزواج بحبيبته..! وبعد تجميعه كل هذه المعلومات قابل الشاب المريض، واخذ يجس نبضه، ويذكر له اسماء الفتيات، حتى يصل إلى اسم محبوبته فيزداد النبض عند المريض ويبدو عليه الاضطراب، عندئذ عرف ابن سينا أن علة الفتى نفسية، وعالجه منها..!! حادثة ابن سينا هذه تأخذنا إلى موضوع غاية في الأهمية، وهو أخذ تاريخ المرض بشكل جاد، وحسب المعايير العالمية والتي تقدر بأن مقابلة المريض النفسي لأول مرة تحتاج إلى مايقارب الساعة للاحاطة بالاشياء المهة في حياة المريض. والمؤسف الآن أننا نرى أطباء نفسيين مشهورين ويحملون أعلى الشهادات ولكن في عياداتهم الخاصة لايعطون المريض أكثر من بضع دقائق..!! بل أن مريضة قالت لي بأن الطبيب المشهور، لم يعطها أكثر من دقيقتين لتقول له تشخيصها بعد أن أخذ مبلغاً خيالياً لهتين الدقيقتين..!! هذا موضوع صعب، وقد تأثر زملائي الذين يعملون في القطاع الخاص من إثارتي لهذا الموضوع، وحسب تعبيرهم بأنهم لو أعطوا كل مريض حقه من الوقت لما استطاعوا تسديد أجرة المبنى الذي يستأجرونه..! نعود إلى العلاقة بين الاضطرابات النفسية والامراض العضوية. كثيرلا يعرفون بأن الامراض النفسية تؤدي إلى اضطرابات عضوية، وأن مرضاً مثل الاكتئاب يؤدي مثلاً إلى نقص المناعة، مما يعرض الجسم إلى الالتهابات، خاصة الالتهابات الفيروسية، واحياناً البكتيرية..! وان هناك علاقة قوية مثلاً بين مرض الربو والحالة النفسية للشخص، فالشخص الذي يتعرض لاضطرابات نفسية قد يكون معرضاً للاصاباة بنوبة ربو شديدة في مثل تلك الحالات النفسية السيئة. وهناك علاقة أيضاً بين الحالات النفسية ومرض السكر مثلاً، وكذلك ارتفاع ضغط الدم، وهناك الكثير من الاضطرابات العضوية التي يكون السبب فيها هو الاضطراب النفسي. كذلك فإن أغلب الامراض العضوية تسوء وتصبح أكثر سوءاً مع تدهور الحالة النفسية للشخص، ويلعب الاكتئاب دوراً مهماً في تدهور الحالة العضوية في كثير من الحالات، سواء كانت أمراضاً بسيطة أو مزمنة وهي الأكثر تأثراً بالحالة النفسية للمريض.!
من هنا يجب أن يتم التعاون بين الطبيب النفسي والأطباء الآخرون في مختلف التخصصات، لأن هذا يشكل عاملاً مساعداً في العلاج، ولاينتقص من قدر المريض او الطبيب.
ولعلي اختم مقالي هذا بحكاية رواها الكاتب والفيلسوف الفلطسيني الامريكي إدوارد سعيد في كتابة «خارج المكان»، وهي دليل واقعي على ارتباط الحالة النفسية بالصحة العامة للشخص.
كان إدوار سعيد يقضي عطلات الصيف كل عام في بلدة لبنانية صغيرة اسمها ظهور الشوير، وكان هذا عادة عائلتهم منذ سنوات طويلة قبل حرب 1976 وكذلك قبل الحرب الاهلية اللبنانية، وكان إدوارد يضيق كثيراً بهذه الإجازة، خاصة عندما أصبح طالباً جامعياً في الولايات المتحدة الامريكية، ولكن في أحد عطلات الصيف هذه وقع في غرام فتاة شامية يعيش اهلها في مصر (مثل اهل إدوارد)، واشتعل الغرام بيينهما، وفي ليلة سفره إلى امريكا، وكان كارهاً للعودة، اصيب بآلام في البطن واعراض مرضية آخرى ويقول لا أعرف هل هذه نتيجة حالة نفسية ام لا.؟ خاصة وانه لم يكن يعاني من أي مرض من قبل، وان الاعراض ذهبت بعد ان طلب منه الطبيب أن يبقى اسبوع في القرية مع حبيبته، فاستمتع بهذا الاسبوع، بسبب الالآم العضوية التي حصلت له نتيجة اعراض نفسية..!! إنها حقيقة ليت الجميع يعرف ما معنى الحالات النفسية وكيف تؤثر على النفس البشرية وكيف تغير الانسان إلى شخص آخر...!!!
يقول إدوارد سعيد في كتابه خارج الزمان، صفحة 311: « عندما خرجنا من السينما، توادعنا بطريقة عرضية، لإدراكنا أن الجميع يحدق إلينا، ومضت ايفا مع نيللي، كان اليوم التالي هو موعد سفري، وهذا يعني إني لن أراها مجدداً قبل تسعة اشهر. وفيما انا استقل السيارة مع اختى روزي، تملكني وجع بطن رهيب. فحصني طبيبنا في اليوم التالي، فوجد بطني رخواً لكنه لم يعثر على أية اعراض آخرى. فكتب تقريراً طبياً لبريستون يشرح فيه حالتي أني سوف أعود بعد اسبوع بسبب الوعكة الصحية. لست أدري ما اذا كان الحب هو المسؤول عن مرضي، ولكن الأكيد أني لم أن أريد مفارقة ايفا».